فـن القـصـة في القـــرآن
فن له مكانته في الآداب العالمية ، تسنمت بين فنون الأدب ذروة عالية ، ونافست فنون الأدب ، حتى عدها كثير من النقاد المعاصرين ( سيدة الأدب المنثور ) دون شك .
وهي أكثر الأنواع الأدبية فعالية في العصر الحديث بالنسبة للوعي الأخلاقي وذلك لأنها تجذب القاريء لتدمجه في الحياة المثلى التي يتصورها الكاتب كما أنها تهبنا من المعرفة ما لا يقدر على هبته أي نوع أدبي سواها وتبسط أمامنا الحياة الإنسانية في عمق وتنوع و سعة و امتداد .
ومن قبل بكثير سبق القرآن الكريم فأولى القصة اهتماما كبيرا حتى شغلت أخبار الأمم السابقة مع أنبيائها ووقائع الماضي البعيد الذي عفت عليه الأيام مساحة واسعة لما لها من تأثير عظيم ، ومن دلالة على إعجاز القرآن الكريم بإخباره عن أحداث عفى عليها الزمان ومحيت صورها من الأذهان .
إطلاقات القرآن الكريم على القصة
يستعمل القرآن الكريم في التعبير عن هذا اللون من موضوعاته الكلمات الدالة المعبرة عن الحقائق و المقاصد الضخمة التي تشتمل عليها .
و أول ما نذكر من هذه الكلمات كلمة
قص ) وهي لغة تدل على التتبع لأمر ما وكذلك ( القصص ) ، ومنه قوله تعالى
فارتدا على آثارهما قصصا ) ومنه : ( القصص ) : بمعنى ذكر الحوادث و الوقائع السابقة ونأخذ مثالا على ذلك قوله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت قبله لمن الغافلين )
وقص الرؤيا هو تتبع ما رآه النائم بذكره و التحدث به .
أما إطلاق القصة بمعنى : مايؤلفه الإنسان و يخترعه من وقائع و أحداث و أشخاص فهو اصطلاح مستحدث في اللغة العربية
كذلك يستخدم القرآن كلمتي : ( نبأ) و ( أيام ) ليعرفنا على الوقائع الجليلة التي حصلت في الماضي .
أهداف القصة في القرآن :
1- الهدف الأكبر و الأعظم هو إعجاز القرآن و إثبات نبوة النبي صلى الله عليه و سلم .
2- بيان أن الله ينصر أنبياءه ورسله في النهاية ، ويهلك الكافرين المكذبين ، مما يثبت قلب النبي ويقوي نفوس المؤمنين ويزجر الضالين الملحدين .
3- بث المعاني الدينية الواضحة و ترسيخ قواعد الدين ، بما يقع في القصص من حوار ومواعظ وحجاج يصغي إليها السامع و يتابعها القاريء سواء كان مؤمنا أو كافرا لما في طبيعة القصص من إثارة و تشويق .
منهج القصص في القرآن الكريم :
لما كانت القصة في القرآن تهدف إلى مقاصد دينية و إيمانية كانت طريقة القص في القرآن متميزة عن المألوف في هذا الفن ، لكي يتلائم أسلوب عرض القصة مع الوفاء بحق الغرض الذي سيقت لأجله ، ومن أبرز سمات منهج القصص في القرآن ما يلي :
1- أن القصة لا ترد في القرآن بتمامها دفعة واحدة ، بل يقتصر على الجزء الذي يناسب الغرض الذي تساق القصة لأجله ، كما يكتفى بالجملة من الآية أو شطر البيت من الشعر للاستشهاد به .
فقصة موسى مع فرعون في سورة غافر وردت في جو كأنه جو معركة ، لأن فيها بيان الصراع بين الحق و الباطل فتذكر السورة من القصة ما يلائم ذلك : محاولة قتل موسى و التفكير بقتل
( أبناء الذين آمنوا معه و استحيوا نساءهم )
ثم ظهور الرجل المؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ينصر موسى و يدافع عنه و احتيال فرعون للتهرب من دلائل الحق و براهينه إلى أن تأتي نهايته بالهلاك و العذاب الأليم و بحفظ الله لهذا المؤمن الحكيم :
( فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب ) .
2- استخراج التوجيهات و العظات و الإعلان بها في ثنايا القصة و في ختامها مما توحي به القصة من العبر و الدروس .
ففي قصة لقمان مثلا :
( و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) يأتي البيان القرآني بتعقيب على هذه الموعظة بقوله
ووصينا الإنسان بوالديه ...) فهذا بعد وصية لقمان الأولى ليس من كلام لقمان ، بل هو من كلام الله تعالى يوجهه سبحانه لعباده لمناسبة وعظ لقمان ، يحقق غرضين كبيرين :
الأول : التأكيد على وصية لقمان ( لا تشرك بالله ) ببيان أنه أعظم الحقوق ، و أنه لايجوز التساهل إزاء قضية الإيمان وتوحيد الله لأي اعتبار ، ولو كان هو حق الوالدين البالغ غاية التقديس .
الثاني : تأكيد حق الوالدين ، و بيان أنه أجل حقوق العباد على الإنسان و أقدس واجبات الإنسان تجاه الإنسان لكنه مع ذلك لايقاوم حق الله تعالى .
نتابع منهج القصص في القرآن الكريم :
3- التكرار :
والتكرار خاصة من خصائص أسلوب القرآن بصورة عامة ، وهو في طريقة عرض القرآن للقصة جزء من تلك الطريقة وهو قسمين :
الأول : تكرار القصة في القرآن :
إن اطلاق كلمة تكرار هنا فيعا كثير من التسامح و التساهل ، فإن تعرض القرآن لما حدث مع نبي من الأنبياء مع قومه في أكثر من موضع ليس تكرارا بالمعنى الحقيقي ، إنما هو استشهاد بالقصة لأغراض متعددة ، لذلك لا نجد القصة تعاد كما هي ، و إنما يذكر الجزء المناسب للغرض و المقصد الذي اقتضى الاستشهاد بالقصة باستعراض سريع . أما جسم القصة فلا يكرر إلا نادرا و لاستنباط دروس و عبر جديدة منه مما يجعله على الحقيقة غير مكرر .
وهكذا وردت قصة آدم في ست مواضع من القرآن تثير العبر حول خطر اتباع الهوى و مخالفة أمر الله ، وضعف الإنسان ، وتوبته و قبول توبته و هكذا .....
كما تكررت قصة موسى ، مع فرعون ، ومع قومه ، ومع نبي الله شعيب في مدين .... وفي كل موضع عبرة و عظة و حكمة و دروس .
الثاني : تكرار العبارات في القرآن :
هذا القسم من التكرار يبرز بعض خصائص أسلوب القرآن و أسرار بلاغته المعجزة فتارة يكرر الجملة أو العبارة دون تغيير فيها لما في ذلك من التأكيد أو التهويل أو التصوير ، وكل هذا له أثر عظيم في تعميق المعنى في النفس وصدعها عما تصر عليه و يظهر هذا واضحا في سورة الرحمن حيث تكرر كثيرا قوله تعالى :
( فبأي آلاء ربكما تكذبان )
وتارة يكون التكرار مع اختلاف في نظم الجملة ، أو إيجاز أو إطناب أو نحو ذلك ، وذلك يبرز سر من أسرار إعجاز القرآن ، وهو التعبير عن المعنى الواحد بأكثر من أسلوب دون أن ينال تكرار المعنى من سمو الأسلوب و إعجازه بينما لا يخلو كلام البشر من تفاوت بين الأسلوبين .
الخصائص الفنية للقصة القرآنية :
نقف هنا على جديد في أسلوب القرآن الكريم المعجز و هو تجاوب أسلوب القصص الفني في القرآن مع فن القصة المعاصر ، ونوضح ذلك من أربعة أوجه وهي أعمدة الخصائص الفنية للقصة :
أولا : تنوع طريقة العرض :
وقد لاحظنا في قصص القرآن أربع طرائق مختلفة للابتداء في عرض القصة على النحو التالي :
1- مرة يذكر ملخصا للقصة يسبقها ، ثم يعرض التفصيلات بعد ذلك من بدئها إلى نهايتها . وذلك كطريقة أصحاب الكهف فالتلخيص في بدايتها كان مقدمة مشوقة للتفصيلات .
2- ومرة تذكر عاقبة القصة و مغزاها ، ثم تبدأ القصة من أولها و تسير بتفصيل خطواتها .
ومن ذلك : قصة يوسف عليه السلام فهي تبدأ بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم ....
ثم تسير القصة بعد ذلك ، وكأنما هي تأويل للرؤيا و لما توقعه يعقوب من ورائها ، حتى إذا تحققت أنهى القصة ولم يسر فيها كما سارت التوراة بعد هذا الختام الفني الدقيق .
3- ومرة تذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص ، و يكون في مفاجآتها الخاصة ما يغني . مثال ذلك : قصة مريم عند مولد عيسى عليه السلام : ومفاجآتها معروفة .. وكذلك قصة سليمان مع الهدهد و النمل و بلقيس .
4- ومرة يحيل القصة تمثيلية . فيذكر فقط من الألفاظ ما ينبه إلى ابتداء العرض ، ثم يدع القصة تتحدث عن نفسها بواسطة أبطالها . وذلك كالمشهد الذي يصوره القرآن من : قصة ابراهيم و اسماعيل في بنائهما للكعبة المشرفة .
ثانيا : تنوع طريقة المفجأة :
1- فمرة يكتم سر المفاجأة عن البطل و عن النظارة ، حتى يكشف لهم معا في آن واحد .. مثال ذلك : قصة موسى مع العبد الصالح العالم في سورة الكهف
2- ومرة يكشف السر للنظارة ، و يترك أبطال القصة عنه في عماية ، وهؤلاء يتصرفون وهم جاهلون بالسر ، و أولئك يشاهدون تصرفاتهم عالمين .
و أغلب ما يكون ذبك في معرض السخرية ، ليشترك النظارة فيها ، منذ أول لحظة ، حيث تتاح لهم السخرية من تصرفات الممثلين !
وقد شاهدنا مثلا من ذلك في قصة أصحاب الجنة ( إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون .... ) وبينما نحن نعلم هذا ، كان أصحاب الجنة يجهلونه : ( فتنادوا مصبحين . أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا و هم يتخافتون ....)وقد ظللنا نحن النظارة نسخر منهم وهم يتنادون و يتخافتون ، و الجنة خاوية كالصريم حتى انكشف لهم السر بعد أن سخرنا نحن منهم ( قالوا إنا لضالون . بل نحن محرومون ) وذلك جزاء من يحرم المساكين .
3- ومرة يكشف بعض السر للنظارة وهو خاف على البطل في موضع وخاف على النظارة و البطل في موضع آخر في القصة الواحدة مثال : قصة عرش بلقيس فمفاجأة أنه صرح ممرد من قوارير ظلت خافية علينا و على بلقيس حتى فوجئنا بسرها معها .
4- ومرة لا يكون هناك سر، بل تواجه المفاجأة البطل و النظارة في آن واحد فقد فوجئنا مع السيدة العذراء مريم بالمخاض .
ثالثا : الاعتناء بفن التصوير :
ويظهر واضحا في رسم الشخصيات ، فشخصية موسى تظهر بصزرة ذلك النبي الواثق بقضيته فهو يواجه تهديد فرعون باللجوء إلى الله تعالى . وشخصية الرجل المؤمن تظهر من خلال الحوار شخصية الرجل الحكيم الذي يتبع المنطق المعقول مع اثارة عواطف قومه بالنداء المتكرر ( يا قوم ... يا قوم ...) وشخصية فرعون تبدو بجبروتها وخبثها و إصرارها على الباطل ( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب )
رابعا : حذف الثغرات بين الوقائع مما لا حاجة إليه لفهم القصة : وذلك بطريقة فنية عجيبة اخترق بها القرآن أستار القرون ليأتي متلائما مع العرض التمثيلي الذي نما في هذا العصر إلى أبدع أسلوب وصل إليه الأدب .
ومن تأمل سائر قصص القرآن تبين له ما عرضناه هنا وتذوق إعجاز أسلوب القرآن في القصة ، وزاد إحساسه بذلك إذا لاحظ البون الهائل بين القصة في الأدب العربي و آداب العالم في عصر نزول القرآن وما تطور إليه فهمنا في العصر الحديث .
المصدر : من كتاب القرآن الكريم و الدراسات الأدبية
للدكتور نور الدين عتر